قال الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام :

( الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا ، وإذا أعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا غضبوا غفروا )

الأربعاء، 25 يناير 2012

فضل زيارة الإمام الرضا ( عليه السلام )

أثرت عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) عدّة روايات تحدّث بها عن فضل الزيارة لمرقد أبيه الرضا ( عليه السلام ) ، وما أعدّه الله للزائر من الأجر والثواب ، وهذه بعضها :
1- روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : سمعت محمّد بن علي الرضا ( عليهما السلام ) يقول : ( ما زار أبي أحد فأصابه أذى من مطر أو برد أو حرّ إلاّ حرّم الله جسده على النار ... ) .
2- روى علي بن أسباط قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) : ما لمن زار أباك بخراسان ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( الجنّة والله الجنّة ) .
3- روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : قلت لأبي جعفر : قد تحيّرت بين زيارة أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) وبين زيارة قبر أبيك بطوس فما ترى ؟ فقال لي : ( مكانك ) ، ثمّ دخل وخرج ودموعه تسيل على خدّيه ، فقال : ( زوّار أبي عبد الله كثيرون ، وزوّار قبر أبي بطوس قليلون ) .

كلام الإمام الرضا ( عليه السلام ) في فضل عترة النبي ( صلى الله عليه وآله )

قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) كان أمين الله في أرضه ، فلمّا انقبض ( صلى الله عليه وآله ) كنا أهل البيت أمناء الله في أرضه ، عندنا علم البلايا والمنايا ، وأنساب العرب ، ومولد الإسلام ، وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان ، وبحقيقة النفاق ، وإنّ شيعتنا لمكتوبون معروفون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، أخذ الله الميثاق علينا وعليهم ، يردون موردنا ، ويدخلون مداخلنا ، ليس على ملّة إبراهيم الخليل الله غيرنا وغيرهم .
إنا يوم القيامة آخذون بحجزة نبينا ، ونبينا آخذ بحجزة ربّه ، وإنّ الحجزة النور ، وشيعتنا آخذون بحجزنا ، من فارقنا هلك ، ومن تبعنا نجى ، والجاحد لولايتنا كافر ، ومتبعنا وتابع أولياءنا مؤمن ، لا يحبّنا كافر ، ولا يبغضنا مؤمن ، من مات وهو محبّناً كان حقّاً على الله أن يبعثه معنا ، نحن نور لمن تبعنا ، ونور لمن اقتد بنا ، من رغب عنّا ليس منّا ، ومن لم يكن معنا فليس من الإسلام في شيء .
بنا فتح الله الدين ، وبنا يختمه ، وبنا أطعمكم عشب الأرض ، وبنا أنزل عليكم مطر السماء ، وبنا أمنكم الله من الغرق في بحركم ، ومن الخسف في برّكم ، وبنا نفعكم الله في حياتكم ، وفي قبوركم ، وفي محشركم ، وعند الصراط ، وعند الميزان ، وعند دخول الجنان .
إنّ مثلنا في كتاب الله كمثل المشكاة ، والمشكاة في القنديل ، فنحن المشكاة ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) ، والمصباح محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، ( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) نحن الزجاجة ، ( كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ) لا منكرة ولا دعية ، ( يَكَادُ زَيْتُهَا ) نورها ، ( يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ ) نور الفرقان ، ( عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ ) لولايتنا ( مَن يَشَاء ) ، ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
فالنور علي ( عليه السلام ) ، يهدي الله لولايتنا من أحب ، حقّاً على الله أن يبعث ولينا مشرّقاً وجهه ، نيّراً برهانه ، عظيماً عند الله حجّته ، ويجيء عدونا يوم القيامة مسودّاً وجهه ، مدحضة عند الله حجّته ، وحق على الله أن يجعل ولينا رفيق النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، وحق على الله أن يجعل عدوّنا رفيقاً للشياطين والكافرين ، وبئس أولئك رفيقاً .
ولشهيدنا فضل على الشهداء بعشر درجات ، ولشهيد شعيتنا على شهيد غيرنا سبع درجات .
فنحن النجباء ، ونحن أبناء الأوصياء ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن المخصوصون في كتاب الله ، ونحن أولى الناس بدين الله ، ونحن الذين شرع الله لنا دينه ، فقال الله : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمّد ، ( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) ، فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم .
ونحن ورثة الأنبياء ، ونحن ذرّية أولى العلم ، ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) بآل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، ( وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ، وكونوا على جماعتكم ، ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ) من أشرك بولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ( مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من ولاية علي ، ( اللَّهُ ) يا محمّد ( يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) من يجيبك إلى ولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقد بعثت إليك بكتاب فيه هدى فتدبّره وافهمه ، فإنّه شفاء ونور ) .

كلام الإمام الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد

قال محمّد بن زيد الطبري : كنت قائماً عند علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) بخراسان ، وحوله جماعة من بني هاشم وغيرهم ، وهو يتكلّم في توحيد الله تعالى ، فقال ( عليه السلام ) :
( أوّل عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي التحديد عنه ، لشهادة العقول بأنّ كل محدود مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أنّ له خالقاً ليس بمخلوق ، الممتنع من الحدث هو القديم في الأزل ، ليس الله عبد من نعت ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقّقه من مثَّله ، ولا به صدق من نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه بشيء من الحواس ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا له عرف من بَعَّضه ، ولا إيّاه أراد من توهّمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول .
بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته سبحانه ، وبالفطرة تثبت حجّته ، خلق الخلق بينه وبينهم حجابُ مباينته إيّاهم ومفارقتهم له ، وابتداؤه لهم دليلهم على أن لا ابتداء له ، لعجز كل مبتدأ منهم عن ابتداء مثله ، فاسماؤه تعالى تعبير ، وأفعاله سبحانه تفهيم ، قد جهل الله سبحانه من حدّه ، وقد تعدّاه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه .
من قال : ( كيف ) فقد شبّهه ، ومن قال : ( أين ) فقد حصره ، ومن قال : ( فيم ) فقد وعاه ، ومن قال : ( علام ) فقد شبّهه ، ومن قال : ( متى ) فقد وقّته ، ومن قال : ( لِمَ ) فقد علّله ، ومن قال : ( فِيم ) فقد ضمّنه ، ومن قال : ( إلام ) فقد نهاه ، ومن قال : ( حَتّام ) فقد غيّاه ، ومن غيّاه فقد جَزّأه ، ومن جَزَّأه فقد ألحد فيه .
لا يتغيّر الله تعالى بتغاير المخلوق ، ولا يتحدّد بتحديد المحدود ، واحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل مباشرة ، متجلِ لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسيم ، موجود لا عن عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بفكر ، مدبّر لا بعزيمة ، شاء لا بهمّة ، مدرك لا بحاسة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمّه الأماكن ، ولا تأخذه السِنات ، ولا تحدّه الصفات ، ولا تقيّده الأدوات .
سبق الأوقات كونُه ، والعدَم وجودُه ، والابتداءَ أزله ، وبمشابهته بين الأشياء عالم أن لا شبه له ، وبمضادّته بين الأضداد علم أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والظل بالحرور ، مؤلّف بين متدانياتها ، مفرّق بين متبايناتها ، بتفريقها دل على مفرقها ، وبتأليفها دل على مؤلّفها ، قال سبحانه : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم إذ لا معلوم ، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا من حيث احدث استفاد معنى المحدث ، لا تنائيه ( منذ ) ، ولا تدنيه ( قد ) ، ولا تحجبه ( لعل ) ، ولا توقّته ( متى ) ، ولا تشتمله ( حين ) ، ولا تقاربه ( مع ) ، كلّما في الخلق من أثر غير موجود به ، وكل ما أمكن فيه ممتنع من صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون .
وكيف يجري عليه ما هو أجراه ! أو يعود فيه ما هو أبداه ! إذاً لتفاوتت دلالته ، وامتنع من الأزل معناه ، ولمّا كان البارئ غير المبرأ ولو وجد له وراء لوجد له أمام ، ولو التمس له التمام لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث !
وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء ! لو تعلّقت به المعاني لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحوّل من كونه دالاً إلى كونه مدلولاً عليه ، ليس في محال القول حجّة ، ولا في المسألة عنه جواب ، لا إله إلاّ هو العلي العظيم ) .

كرامات الإمام علي الرضا ( عليه السلام )

يتميّز الأئمة ( عليهم السلام ) بارتباطٍ خاصٍّ بالله تعالى وعالَم الغيب ، بسبَبِ مقامِ العصمة والإمامة ، ولَهُم - مثل الأنبياء - معاجزٌ وكرامَاتٌ تؤيِّد ارتباطهم بالله تعالى ، وكونَهم أئمّة .
وللإمام الرضا ( عليه السلام ) معاجزٌ وكراماتٌ كثيرةٌ ، سجَّلَتْها كتبُ التاريخ ، ونذكر هنا بعضاً منها :

الكرامة الأولى :

عن علي بن ميثم عن أبيه ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت نجمة أم الرضا ( عليه السلام ) تقول : لما حملت بابني الرضا لم أشعر بثقل الحمل ، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً من بطني فيهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع ، فلمّا وضعته وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض ، رافعاً رأسه ويحرّك بشفتيه ويتكلّم .

الكرامة الثانية :

عن إبراهيم بن موسى القزّاز ، قال : ألححت على الرضا ( عليه السلام ) في شيء طلبته منه ، فخرج يستقبل بعض الطالبيين ، وجاء وقت الصلاة فمال إلى قصر هناك ، فنزل تحت شجرة بقرب القصر ، وأنا معه وليس معنا ثالث ، فقال : ( أذّن ) ، فقلت : ننتظر يلحق بنا أصحابنا .
فقال : ( غفر الله لك ، لا تؤخرن صلاة عن أوّل وقتها إلى آخر وقتها من غير علّة عليك أبداً بأوّل الوقت ) ، فأذّنت وصلينا ، فقلت : يا ابن رسول الله ، قد طالت المدّة في العدة التي وعدتنيها ، وأنا محتاج وأنت كثير الشغل ، لا أظفر بمسألتك كل وقت ، قال : فحكّ بسوطه الأرض حكّاً شديداً ، ثمّ ضرب بيده إلى موضع الحك ، فأخرج سبيكة ذهب .
فقال : ( خذها إليك ، بارك الله لك فيها ، وانتفع بها ، واكتم ما رأيت ) ، قال : فبورك لي فيها حتّى اشتريت بخراسان ما كان قيمته سبعين ألف دينار ، فصرت أغنى الناس من أمثالي هناك .

الكرامة الثالثة :

قال أبو إسماعيل السندي : سمعت بالسند أنّ لله في العرب حجّة ، فخرجت منها في الطلب ، فدللت على الرضا ( عليه السلام ) فقصدته ، فدخلت عليه وأنا لا أحسن من العربية كلمة ، فسلّمت بالسندية ، فرد عليّ بلغتي ، فجعلت أكلّمه بالسندية وهو يجيبني بالسندية ، فقلت له : إنّي سمعت بالسند أنّ لله حجّة في العرب ، فخرجت في الطلب ، فقال بلغتي : ( نعم أنا هو ) ، ثمّ قال : ( فسل عمّا تريد ) .
فسألته عمّا أردته ، فلمّا أردت القيام من عنده ، قلت : إنّي لا أحسن من العربية شيئاً ، فادع الله أن يلهمنيها ، لأتكلم بها مع أهلها ، فمسح يده على شفتي ، فتكلّمت بالعربية من وقتي .

الكرامة الرابعة :

عن أبي الصلت الهروي ـ كان خادماً للإمام الرضا ( عليه السلام ) ـ قال : أصبح الرضا ( عليه السلام ) يوماً ، فقال لي : ( أدخل هذه القبّة التي فيها هارون ، فجئني بقبضة تراب من عند بابها ، وقبضة من يمنتها ، وقبضة من يسرتها ، وقبضة من صدرها ، وليكن كل تراب منها على حدته ) ، فصرت إليها فأتيته بذلك ، وجعلته بين يديه على منديل ، فضرب بيده إلى تربة الباب ، فقال : ( هذا من عند الباب ؟ ) قلت : نعم .
قال : ( غداً تحفر لي في هذا الموضع ، فتخرج صخرة لا حيلة فيها ) ، ثمّ قذف به ، وأخذ تراب اليمنة ، وقال : ( هذا من يمنتها ؟ ) قلت : نعم ، قال : ( ثمّ تحفر لي في هذا الموضع ، فتظهر نبكة لا حيلة فيها ) ، ثمّ قذف به ، وأخذ تراب اليسرة ، وقال : ( ثمّ تحفر لي في هذا الموضع ، فتخرج نبكة مثل الأولى ) ، وقذف به .
وأخذ تراب الصدر ، فقال : ( وهذا تراب من الصدر ، ثمّ تحفر لي في هذا الموضع ، فيستمر الحفر إلى أن يتم ، فإذا فرغ من الحفر فضع يدك على أسفل القبر ، وتكلّم بهذه الكلمات ... ، فإنّه سينبع الماء حتّى يمتلئ القبر ، فتظهر فيه سميكات صغار ، فإذا رأيتها ، ففتت لها كسرة ، فإذا أكلتها خرجت حوتة كبيرة ، فابتلعت تلك السميكات كلّها ، ثمّ تغيب ، فإذا غابت فضع يدك على الماء ، وأعد الكلمات ، فإنّ الماء ينضب كلّه ، وسل المأمون عنّي أن يحضر وقت الحفر ، فإنّه سيفعل ليشاهد هذا كلّه ) .
ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( الساعة يجئ رسوله فاتبعني ، فإن قمت من عنده مكشوف الرأس فكلّمني بما تشاء ، وإن قمت من عنده مغطّى الرأس فلا تكلّمني بشيء ) ، قال : فوافاه رسول المأمون ، فلبس الرضا ( عليه السلام ) ثيابه ، وخرج وتبعته ، فلمّا دخل إلى المأمون وثب إليه ، فقبّل بين عينيه ، وأجلسه معه على مقعده ، وبين يديه طبق صغير فيه عنب ، فأخذ عنقوداً قد أكل نصفه ، ونصفه باق ، وقد كان شربه بالسم ، وقال للرضا ( عليه السلام ) : حمل إليّ هذا العنقود فاستطبته ، فأكلت منه ، وتنغصّت به أن لا تأكل منه ، فأسألك أن تأكل منه .
قال : ( أو تعفيني من ذلك ؟ ) ، قال : لا والله ، فإنّك تسرنّي بما تأكل منه ، قال : فاستعفاه ثلاث مرّات ، وهو يسأله بمحمّد وعلي أن يأكل منه ، فأخذ منه ثلاث حبّات فأكلها ، وغطّى رأسه ونهض من عنده ، فتبعته ولم أكلّمه بشيء حتّى دخل منزله ، فأشار إليّ أن أغلق الباب فأغلقته ، وصار إلى مقعد له فنام عليه ، وصرت أنا في وسط الدار ، فإذا غلام عليه وفرة ظننته ابن الرضا ( عليه السلام ) ، ولم أكن قد رأيته قبل ذلك ، فقلت : يا سيدي الباب مغلق فمن أين دخلت ؟
فقال : ( لا تسأل عمّا لا تحتاج إليه ) ، وقصد إلى الرضا ( عليه السلام ) ، فلمّا بصر به الرضا ( عليه السلام ) وثب إليه ، وضمّه إلى صدره ، وجلسا جميعاً على المقعد ، ومد الرضا ( عليه السلام ) الرداء عليهما ، فتناجيا طويلاً بما لم أعلمه .
ثمّ امتد الرضا ( عليه السلام ) على المقعد ، وغطّاه محمّد بالرداء ، وصار إلى وسط الدار ، فقال : ( يا أبا الصلت ) ، قلت : لبيك يا ابن رسول الله ، قال : ( أعظم الله أجرك في الرضا ، فقد مضى ) ، فبكيت قال : ( لا تبك هات المغتسل والماء لنأخذ في جهازه ) ، فقلت : يا مولاي الماء حاضر ، ولكن ليس في الدار مغتسل إلاّ أن يحضر من خارج الدار ، فقال : ( بل هو في الخزانة ) ، فدخلتها فوجدت فيها مغتسلاً لم أره قبل ذلك ، فأتيته به وبالماء .
ثمّ قال : ( تعال حتّى نحمل الرضا ( عليه السلام ) ) ، فحملناه على المغتسل ، ثمّ قال : ( اغرب عنّي ) ، فغسّله هو وحده ، ثمّ قال : ( هات أكفانه والحنوط ) ، قلت : لم نعد له كفناً ، فقال : ( ذلك في الخزانة ) ، فدخلتها فرأيت في وسطها أكفاناً وحنوطاً لم أره قبل ذلك ، فأتيته به فكفّنه وحنّطه .
ثمّ قال لي : ( هات التابوت من الخزانة ) ، فاستحييت منه أن أقول : ما عندنا تابوت ، فدخلت الخزانة ، فوجدت فيها تابوتاً لم أره قبل ذلك ، فأتيته به فجعله فيه ، فقال : ( تعال حتّى نصلّي عليه ) ، وصلّى بي وغربت الشمس ، وكان وقت صلاة المغرب ، فصلّى بي المغرب والعشاء ، وجلسنا نتحدّث ، فانفتح السقف ، ورفع التابوت .
فقلت : يا مولاي ليطالبني المأمون به فما تكون حيلتي ؟ قال : ( لا عليك فإنّه سيعود إلى موضعه ، فما من نبي يموت في مغرب الأرض ، ولا يموت وصي من أوصيائه في مشرقها إلاّ جمع الله بينهما قبل أن يدفن ) ، فلمّا مضى من الليل نصفه أو أكثر ، إذا التابوت قد رجع من السقف حتّى استقر مكانه ، فلمّا صلّينا الفجر قال لي : ( افتح باب الدار ، فإنّ هذا الطاغية يجيئك الساعة ، فعرّفه أنّ الرضا ( عليه السلام ) قد فرغ من جهازه ) .
قال : فمضيت نحو الباب ، فالتفت فلم أره ، فلم يدخل من باب ، ولم يخرج من باب ، قال : وإذا المأمون قد وافى ، فلمّا رآني قال : ما فعل الرضا ؟ قلت : أعظم الله أجرك في الرضا ، فنزل وخرق ثيابه وسفى التراب على رأسه ، وبكى طويلاً ، ثمّ قال : خذوا في جهازه ، قلت : قد فرغ منه ، قال : ومن فعل به ذلك ؟ قلت : غلام وافاه لم أعرفه ، إلاّ أنّي ظننته ابن الرضا .
قال : فاحفروا له في القبّة ، قلت : فإنّه يسألك أن تحضر موضع الحفرة ، قال : نعم أحضروا كرسياً فجلس عليه ، وأمر أن يحفر له عند الباب ، فخرجت الصخرة ، فأمر بالحفر في يمنة القبّة ، فخرجت النبكة ، ثمّ أمر بذلك في يسرتها ، فظهرت النبكة الأخرى ، فأمر بالحفر في الصدر ، فاستمر الحفر ، فلمّا فرغ منه وضعت يدي على أسفل القبر ، وتكلّمت بالكلمات ، فنبع الماء وظهرت السميكات ، ففتتت لها كسرة خبز فأكلتها ، ثمّ ظهرت السمكة الكبيرة فابتلعتها كلّها وغابت ، فوضعت يدي على الماء وأعدت الكلمات ، فنضب الماء كلّه ، وانتزعت الكلمات من صدري من ساعتي ، فلم أذكر منها حرفاً واحداً .
فقال المأمون : يا أبا الصلت الرضا أمرك بهذا ؟ قلت : نعم ، قال : فما زال الرضا يرينا العجائب في حياته ، ثمّ أراناها بعد وفاته ، فقال للوزير : ما هذا ؟ قال : ألهمت أنّه ضرب لكم مثلاً بأنّكم تتمتّعون في الدنيا قليلاً مثل هذه السميكات ، ثمّ يخرج واحد منهم فيهلككم .
فلمّا دفن ( عليه السلام ) قال لي المأمون : علّمني الكلمات ؟ قلت : والله انتزعت من قلبي فما أذكر منها حرفاً ، وبالله لقد صدّقته فلم يصدّقني ، وتوعدني بالقتل إن لم أعلمه إياها ، وأمر بي إلى الحبس ، فكان في كل يوم يدعوني إلى القتل ، أو تعليمه ذلك ، فأحلف له مرّة بعد أخرى كذلك سنة ، فضاق صدري فقمت ليلة جمعة فاغتسلت وأحييتها راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرّعاً إلى الله في خلاصي ، فلمّا صليت الفجر إذا أبو جعفر بن الرضا ( عليه السلام ) قد دخل إليّ .
وقال : ( يا أبا الصلت ضاق صدرك ؟ ) قلت : إي والله يا مولاي ، قال : ( أمّا لو فعلت قبل هذا ما فعلته الليلة ، لكان الله قد خلّصك كما يخلّصك الساعة ) ، ثمّ قال : ( قم ) ، فقلت : إلى أين ؟ والحرّاس على باب السجن ، والمشاعل بين أيديهم ؟ قال : ( قم ، فإنّهم لا يرونك ، ولا تلتقي معهم بعد يومك هذا ) ، فأخذ بيدي وأخرجني من بينهم ، وهم قعود يتحدّثون ، والمشاعل بين أيديهم فلم يرونا ، فلمّا صرنا خارج السجن .
قال : ( أي البلاد تريد ؟ ) قلت : منزلي بهراة ، قال : ( أرخ رداءك على وجهك ، وأخذ بيدي ) ، فظننته حوّلني عن يمنته إلى يسرته ، ثمّ قال لي : ( اكشف وجهك ) ، فكشفته ، فلم أره ، فإذا أنا على باب منزلي فدخلته ، فلم ألتق مع المأمون ، ولا مع أحد من أصحابه إلى هذه الغاية .

الكرامة الخامسة :

روى أبو عبد الله البرقي عن الحسن بن موسى بن جعفر ، قال : خرجنا مع أبي الحسن ( عليه السلام ) إلى بعض أمواله في يوم لا سحاب فيه ، فلمّا برزنا قال : ( حملتم معكم المماطر ؟ ) قلنا : وما حاجتنا إلى المماطر ؟ وليس سحاب ، ولا نتخوّف المطر ، قال : ( لكنّي قد حملته ، وستمطرون ) .
قال : فما مضينا إلاّ يسيراً حتّى ارتفعت سحابة ، ومطرنا حتّى أهمتنا أنفسنا ، فما بقي منّا أحد إلاّ ابتل غيره .

الكرامة السادسة :

عن الحسن بن علي بن يحيى ، قال : زوّدتني جارية لي ثوبين ملحمين ، وسألتني أن أحرم فيهما ، فأمرت الغلام فوضعهما في العيبة ، فلمّا انتهيت إلى الوقت الذي ينبغي أن أحرم فيه دعوت بالثوبين لألبسهما ، ثمّ اختلج في صدري ، فقلت : ما أظنّه ينبغي أن أحرم فيهما ، فتركتهما ولبست غيرهما .
فلمّا صرت بمكّة ، كتبت كتاباً إلى أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، وبعثت إليه بأشياء كانت معي ، ونسيت أن أكتب إليه أسأله عن المحرم هل يلبس الملحم ؟ فلم ألبث أن جاءني الجواب بكل ما سألته عنه ، وفي أسفل الكتاب : ( لا بأس بالملحم أن يلبسه المحرم ) .

الكرامة السابعة :

قال علي بن الحسين بن يحيى : كان لنا أخ يرى رأي الإرجاء ، يقال له : عبد الله ، وكان يطعن علينا ، فكتبت إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) أشكو إليه ، وأسأله الدعاء ، فكتب إليّ : ( سترى حاله إلى ما تحب ، وأنّه لن يموت إلاّ على دين الله ، وسيولد له من أم ولد له فلانة غلام ) .
قال علي بن الحسين بن يحيى : فما مكثنا إلاّ أقل من سنة حتّى رجع إلى الحق ، فهو اليوم خير أهل بيتي ، وولد له بعد كتاب أبي الحسن من أم ولده تلك غلام .

الكرامة الثامنة :

قال سليمان بن جعفر الجعفري : كنت مع الرضا ( عليه السلام ) في حائط له ، وأنا أحدّثه إذ جاء عصفور فوقع بين يديه ، وأخذ يصيح ويكثر الصياح ويضطرب ، فقال لي : ( تدري ما يقول هذا العصفور ؟ ) قلت : الله ورسوله وابن رسوله أعلم .
قال : ( قال إنّ حيّة تريد أن تأكل فراخي في البيت ، فقم فخذ تلك النسعة ، وادخل البيت ، واقتل الحيّة ) ، قال : فقمت وأخذت النسعة ، فدخلت البيت ، وإذا حيّة تجول في البيت ، فقتلتها .

الكرامة التاسعة :

قال الحسن بن علي بن فضّال : إنّ عبد الله بن المغيرة ، قال : كنت واقفياً ، وحججت على تلك الحالة ، فخلج في صدري بمكّة شيء ، فتعلّقت بالملتزم ، ثمّ قلت : اللهم قد علمت طلبتي وإرادتي ، فأرشدني إلى خير الأديان ، فوقع في نفسي أن آتي الرضا ( عليه السلام ) ، فأتيت المدينة ، فوقفت ببابه ، فقلت للغلام : قل لمولاك رجل من أهل العراق بالباب ، فسمعت نداءه وهو يقول : ( أدخل يا عبد الله بن المغيرة ) ، فدخلت ، فلمّا نظر إليّ قال : ( قد أجاب الله دعوتك ، وهداك لدينه ) ، فقلت : أشهد أنّك حجّة الله على خلقه .

الكرامة العاشرة :

عن بكر بن صالح ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : امرأتي أخت محمّد بن سنان ، بها حمل فادع الله أن يجعله ذكراً ، قال : ( هما اثنان ) ، قلت في نفسي : هما محمّد وعلي بعد انصرافي ، فدعاني بعد فقال : ( سم واحداً علياً والأخرى أم عمر ) .
فقدمت الكوفة ، وقد ولد لي غلام وجارية في بطن ، فسمّيت كما أمرني ، فقلت لأمّي : ما معنى أم عمر ؟ فقالت : إنّ أمّي كانت تدعى أم عمر .

الكرامة الحادية عشرة :

عن عبد الله بن سوقة ، قال : مر بنا الرضا ( عليه السلام ) ، فاختصمنا في إمامته ، فلمّا خرج خرجت أنا وتميم بن يعقوب السرّاج من أهل برقة ، ونحن مخالفون له ، نرى رأي الزيدية ، فلمّا صرنا في الصحراء ، فإذا نحن بظباء ، فأومئ أبو الحسن ( عليه السلام ) إلى خشف منها ، فإذا هو قد جاء حتّى وقف بين يديه ، فأخذ أبو الحسن يمسح رأسه ، ودفعه إلى غلامه ، فجعل الخشف يضطرب لكي يرجع إلى مرعاه ، فكلّمه الرضا بكلام لا نفهمه فسكن .
ثمّ قال : ( يا عبد الله ، أو لم تؤمن ؟ ) قلت : بلى يا سيّدي ، أنت حجّة الله على خلقه ، وأنا تائب إلى الله ، ثمّ قال للظبي : ( اذهب إلى مرعاك ) ، فجاء الظبي وعيناه تدمعان ، فتمسح بأبي الحسن ( عليه السلام ) ورغى .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( تدري ما يقول ؟ ) قلنا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، قال : ( يقول دعوتني فرجوت أن تأكل من لحمي فأجبتك ، وحزنتني حين أمرتني بالذهاب ) .

ألقاب الإمام الرضا ( عليه السلام )

لُقِّبَ الإمام الرضا ( عليه السلام ) بكوكبة من الألقاب الكريمة ، وكل لقب منها يرمز إلى صفة من صفاته الكريمة ، وهذه بعضها :

الأول : ( الرضا ) :

اختلف المؤرخون والرواة في الشخص الذي أضفى على الإمام ( عليه السلام ) هذا اللقب الرفيع ، حتى غلب عليه ، وصار اسماً يُعرف به .
وقد عَلَّلَ أحمد البزنطي السبب الذي من أجله لُقِّب بـ ( الرضا ) فقال : إنما سُمِّي ( عليه السلام ) الرضا ، لأنه كانَ رِضَى لله تَعَالى في سَمَائِه ، وَرِضَى لِرسُوله والأئمة ( عليهم السلام ) بعده في أرضه .

الثاني : ( الصابر ) :

وإنما لُقِّب ( عليه السلام ) بذلك لأنه صَبَر على المِحَن والخُطُوب التي تَلَقَّاهَا مِن خُصُومِهِ وأعدَائِه .

الثالث : ( الزكِي ) :

لأن الإمام ( عليه السلام ) قد كان من أزكياء البشر ، ومن نبلائهم وأشرافهم .

الرابع : ( الوفي ) :

أما الوفاء فهو عنصر من عناصر الإمام ( عليه السلام ) ، وذاتي من ذاتياته ، فقد كان ( عليه السلام ) وَفِياً لأُمَّتِه ووطَنِه .

الخامس : ( سراج الله ) :

فَقد كَان الإمام ( عليه السلام ) سِرَاجاً لله ، يَهدِي الضالَّ وَيرشدُ الحَائِر .

السادس : ( قُرَّة عينِ المُؤمنين ) :

ومن ألقابه الكريمة أنه ( عليه السلام ) كان قُرَّة عينِ المؤمنين ، فَقد كَان زَيناً وفخراً لهم .

السابع : ( مكيدة المُلحدين ) :

وإنما لُقِّب ( عليه السلام ) بذلك لأنه أبطلَ شُبَه المُلحِدين وَفَنَّد أوهامَهُم ، وذلك في مناظراته التي أُقيمت في البلد العباسي ، والتي أَثبتَ فيها أصالة القيم والمبادئ الإسلامية .

الثامن : ( الصدِّيق ) :

فقد كان ( عليه السلام ) كـ ( يوسُفُ الصدِّيق ) الذي ملك مصر ، فقد تَزعَّم جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وكانت لَهُ الولاية المُطلَقة عليه .

التاسع : ( الفاضل ) :

فهو أفضل إنسانٍ وأكملُهُم في عصره ، ولهذه الظاهرة لُقِّبَ ( عليه السلام ) بـ ( الفاضل ) .
فهذه بعض الألقاب الكريمة التي لقب بها ، وهي تنم عن سُمُوِّ شخصيته وعظيم شأنه ( عليه السلام ) .

ولادة الإمام علي الرضا(عليه السلام)

اسمه ونسبه(عليه السلام)


الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)


أبو الحسن، أبو علي... .

ألقابه(عليه السلام)


الرضا، الصابر، الرضي، الوفي، الفاضل... وأشهرها الرضا.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها


11 ذو القعدة 148ﻫ، المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته


أُمّه السيّدة تكتم، وهي جارية، وزوجته السيّدة سُكينة المرسية، وقيل: الخَيزران أُمّ الإمام محمّد الجواد(عليه السلام)، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته


عمره 55 سنة، وإمامته 20 سنة.

حكّام عصره(عليه السلام) في سني إمامته


هارون الرشيد، محمّد الأمين ابن هارون الرشيد، عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد.

المراسيم الشرعية


أخذ الإمام الكاظم(عليه السلام) وليده المبارك وقد لُفّ في خرقة بيضاء، وأجرى عليه المراسيم الشرعية، فأذّن في أُذنِه اليمنى وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفُرات فحنّكه به، ثمّ ردّه إلى أُمّه، وقال(عليه السلام) لها: «خُذِيه، فَإِنّهُ بَقِيةَ اللهِ فِي أرضِهِ»(1).

سيرته(عليه السلام)


روي في كتب السيرة عن سيرته المباركة الشيء الكثير، فمنها أنّه ما جفا أحداً بكلام قطّ، ولا قطع على أحدٍ كلامه حتّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجةٍ قدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليسٍ له قطّ، ولم يسمع منه أحد في يومٍ ما أنّه شتم أحداً من مواليه أو مماليكه.
كان ضحكه التبسّم، وإذا جلس عند المائدة أجلس مواليه ومماليكه معه، حتّى البوّاب معه والسائس، وكان قليل النوم كثير العبادة، كثير الصوم في الأيّام، وكثيراً ما يتصدّق بالسرّ.

علمه(عليه السلام)


فهو وارث علم النبوّة والإمامة، وهو الحافل بالعلم اللدنّي، لذا شهد له موافقوه ومخالفوه بذلك، حتّى أنّ محمّد بن عيسى اليقطيني قال: «لمّا اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، جمعت من مسائله ممّا سُئل عنه وأجاب عنه خمس عشرة ألف مسألة»(2).
جمع الخليفة المأمون يوماً علماء سائر الملل والأديان ليسألوا الإمام(عليه السلام) عمّا استعصى عليهم، فكان منه ما كان من الردّ عليهم وإفحامهم.

تواضعه(عليه السلام)


روي عنه(عليه السلام) أنّه لمّا سافر إلى خراسان دعا ـ وهو في الطريق ـ بمائدةٍ له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقال له بعض أصحابه: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟
فقال(عليه السلام): «مه! إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»(3).

كرمه(عليه السلام)


روي في كرمه(عليه السلام) وسخائه الكثير، منها أنّه: مرّ به رجل فقال له: أعطني قدر مروءتك؟ فقال(عليه السلام): «لا يسعني ذلك»، فقال: على قدر مروءتي، قال(عليه السلام): «إذاً فنعم». ثمّ قال: «يا غلام، أعطه مائتي دينار»(4).

من وصاياه(عليه السلام)


1ـ قال(عليه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ يبغض القيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»(5).
2ـ قال(عليه السلام): «التودّد إلى الناس نصف العقل»(6).
3ـ قال(عليه السلام): «صديق كلّ امرىءٍ عقله، وعدوّه جهله»(7).
4ـ قال(عليه السلام): «ليس لبخيلٍ راحة، ولا لحسودٍ لذّة، ولا لملولٍ وفاء، ولا لكذوبٍ مروءة»(8).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1. كشف الغمّة 3/90.
2. الغيبة للشيخ الطوسي: 73.
3. الكافي 8/230.
4. مناقب آل أبي طالب 3/470.
5. الكافي 5/310.
6. المصدر السابق 2/643.
7. المصدر السابق 1/11.
8. تحف العقول: 450.

نص الإمام الرضا ( عليه السلام ) على إمامة الجواد ( عليه السلام )

نص الإمام الرضا ( عليه السلام ) على إمامة ولده محمّد الجواد ( عليه السلام ) ، ونصّبه خليفة من بعده ، ومرجعاً عامّاً للمسلمين ليرجعوا إليه في شؤونهم الدينية ، وقد روى النصّ على إمامته جمهور كبير من الرواة ، كان منهم :

1- محمّد المحموري :

روى محمّد المحموري عن أبيه قال : كنت واقفاً على رأس الإمام الرضا ( عليه السلام ) بطوس ، فقال له بعض أصحابه : إن حدث حدّث فإلى من ؟
وإنّما سأله عن الإمام من بعده حتّى يدين بطاعته والولاء له ، فقال ( عليه السلام ) له : ( إلى ابن أبي جعفر ... ) .
وكان الإمام أبو جعفر ( عليه السلام ) في مرحلة الطفولة ، فقال له : إنّي استصغر سنّه !!
فردّ عليه الإمام هذه الشبهة قائلاً : ( إنّ الله بعث عيسى بن مريم قائماً في دون السنّ ، التي يقوم فيها أبو جعفر ... ) .
وحفل جواب الإمام الرضا ( عليه السلام ) بالدليل الحاسم ، فإنّ الله تعالى بعث عيسى نبيّاً وآتاه العلم صبياً ، وهو دون سنّ الإمام أبي جعفر ، والنبوّة والإمامة من منبع واحد لا يناطان بالصغير والكبير ، وإنّما أمرهما بيد الله تعالى ، فهو الذي يختار لهما من أحبّ من عباده .

2- صفوان بن يحيى :

قال صفوان بن يحيى : قلت للرضا ( عليه السلام ) : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر عن القائم بعدك ؟ فتقول : يهب الله لي غلاماً ، فقد وهبه الله لك فأقرّ عيوننا ، فإن كان كون فإلى من ؟ فأشار الإمام ( عليه السلام ) إلى أبي جعفر ، وهو قائم بين يديه ، وعمره إذ ذاك ثلاث سنين .
فقلت : هو ابن ثلاث سنين ؟! قال ( عليه السلام ) : ( وما يضرّ من ذلك ، فقد قام عيسى بالحجّة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين ) .

3- معمر بن خلاّد :

روى معمر بن خلاّد النصّ من الإمام الرضا ( عليه السلام ) على إمامة ولده الجواد ، قال : سمعته يقول لأصحابه : وقد ذكر شيئاً ، ثمّ قال لهم : ( ما حاجتكم إلى ذلك ؟ هذا أبو جعفر أجلسته مجلسي ، وصيرته مكاني ... إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة ) .

4- عبد الله بن جعفر :

قال عبد الله بن جعفر : دخلت على الإمام الرضا ( عليه السلام ) أنا وصفوان بن يحيى ، وأبو جعفر قائم قد أتى له ثلاث سنين ، فقلنا : جعلنا الله فداك ، ونعوذ بالله إن حدث حدث فمن يكون بعدك ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ابني هذا ) ، وأومأ إلى ولده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، فقلنا له : وهو في هذا السنّ ؟! قال ( عليه السلام ) : ( نعم إنّ الله تبارك وتعالى احتجّ بعيسى وهو ابن سنتين ) .

5- محمّد بن أبي عباد :

قال محمّد بن أبي عباد : سمعت الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : ( أبو جعفر وصيّي وخليفتي في أهلي من بعدي ) .
إلى غير ذلك من النصوص التي أثرت عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وهي تلعن إمامة الجواد من بعده ، وأنّه أحد خلفاء الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) على أمّته .

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع متكلمي الفرق الإسلامية

عن الحسن بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون يوماً ، وعنده علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة ، فسأله بعضهم ، فقال له : يا بن رسول الله بأيّ شيء تصح الإمامة لمدّعيها ؟
قال ( عليه السلام ) : ( بالنص والدليل ) ، قال له : فدلالة الإمام فيما هي ؟
قال ( عليه السلام ) : ( في العلم واستجابة الدعوة ) ، قال : فما وجه إخباركم بما يكون ؟
قال ( عليه السلام ) : ( ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال : فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس ؟
قال ( عليه السلام ) : ( أما بلغك قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : اتقوا فراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور الله ) ؟ قال : بلى .
قال ( عليه السلام ) : ( وما من مؤمن إلاّ وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه ، ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله الأئمّة منّا ما فرّقه في جميع المؤمنين ، وقال عز وجل في محكم كتابه : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ) ، فأوّل المتوسمين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من بعده ، ثمّ الحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين ( عليهم السلام ) إلى يوم القيامة ) .
قال : فنظر إليه المأمون فقال له : يا أبا الحسن زدنا ممّا جعل الله لكم أهل البيت ، فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّ الله عزَّ وجل قد أيّدنا بروح منه مقدّسة مطهّرة ليست بملك لم تكن مع أحد ممّن مضى ، إلاّ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي مع الأئمّة منّا تسدّدهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عز وجلَّ ) .
قال له المأمون : يا أبا الحسن بلغني أنَّ قوماً يغلون فيكم ، ويتجاوزون فيكم الحدّ ؟ فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( حدَّثني أبي موسى بن جعفر ; عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا ترفعوني فوق حقّي ، فإنَّ الله تبارك وتعالى اتّخذني عبداً قبل أن يتخذني نبيّاً ) .
قال الله تبارك وتعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) آل عمران : 79 ـ 80 .
قال ( عليه السلام ) : ( يهلك فيَّ اثنان ولا ذنب لي ، محبّ مفرط ومبغض مفرّط ، وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممّن يغلو فينا ، ويرفعنا فوق حدّنا كبراءة عيسى بن مريم ( عليه السلام ) من النصارى ، قال الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) المائدة : 116 ـ 117 .
وقال عزَّ وجل : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) النساء : 172 ، وقال عز وجل : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ) المائدة : 75 ، ومعناه إنّهما كانا يتغوَّطان ، فمن ادّعى للأنبياء ربوبية وادّعى للأئمّة ربوبية أو نبوّة أو لغير الأئمّة إمامة ، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة ) .
فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة ؟ فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّها لحقّ قد كانت في الأُمم السالفة ، ونطق به القرآن ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكون في هذه الأُمة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ) ، وقال ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم فصلّى خلفه ) ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) ، قيل : يا رسول الله ثمّ يكون ماذا ؟ قال : ثمّ يرجع الحق إلى أهله ) ) .
فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في القائلين بالتناسخ ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم ، مكذّب بالجنّة والنار ) .
قال المأمون : ما تقول في المسوخ ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أولئك قوم غضب الله عليهم ، فمسخهم ، فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ ماتوا ولم يتناسلوا ، فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك ممّا وقع عليهم اسم المسوخية فهو مثل ما لا يحلّ أكلها والانتفاع بها ) .
قال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن ، فو الله ما يوجد العلم الصحيح إلاّ عند أهل هذا البيت ، وإليك انتهت علوم آبائك ، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً .
قال الحسن بن الجهم : فلمّا قام الرضا ( عليه السلام ) تبعته فانصرف إلى منزله ، فدخلت عليه وقلت له : يا ابن رسول الله ، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك .
فقال ( عليه السلام ) : ( يا بن الجهم لا يغرنَّك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع منّي ، فإنه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم إليَّ ، إنّي أعرف ذلك بعهد معهود إليَّ من آبائي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاكتم هذا ما دمت حياً ) .
قال الحسن بن الجهم : فما حدَّثت أحداً بهذا الحديث إلى أن مضى ( عليه السلام ) بطوس مقتولاً بالسمّ .

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع علي بن الجهم

عن أبي الصلت الهروي : أنّ المأمون لما جمع لعلي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات ـ من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين ـ وسائر أهل المقالات ، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنّه قد أُلقم حجراً .
فقام إليه علي بن محمّد بن الجهم ، فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟ قال : ( بلى ) .
قال : فما تعمل في قول الله عزّ وجل : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) ؟ وقوله عزّ وجل : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) ؟ وقوله في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) ؟ وقوله عزّ وجل في داود : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) ؟ وقوله في نبيّه محمّد ( صلى الله عليه وآله ) : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) ؟
فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( ويحك يا علي ! اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأوّل كتاب الله عزّ وجل برأيك ، فإنّ الله عزّ وجل يقول : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) .
وأمّا قوله عزّ وجل في آدم ( عليه السلام ) : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) ، فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم حجّة في أرضه ، وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنّة ، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض ، لتتمّ مقادير أمر الله عزّ وجل ، فلمّا أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة عصم بقوله عزّ وجل : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .
وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظن أنّ الله عزّ وجل لا يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عزّ وجل : ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) أي ضيّق عليه ، ولو ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه لكان قد كفر .
وأمّا قوله عزّ وجل في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) فإنّها همّت بالمعصية وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله : ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ـ يعني القتل ـ وَالْفَحْشَاء ) يعني الزنا .
وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه ؟ ) .
فقال علي بن الجهم : يقولون إنّ داود كان في محرابه يصلّي إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير إلى الدار ، فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح ، فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة اُوريا تغتسل ، فلمّا نظر اليها هواها وكان اُوريا قد أخرجه في بعض غزواته ، فكتب إلى صاحبه أن أقدم أُوريا أمام الحرب ، فقدّم فظفر اُوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود ، فكتب الثانية أن قدّمه أمام التابوت ، فقتل اُوريا رحمه الله ، وتزوّج داود بامرأته .
قال : فضرب الرضا ( عليه السلام ) بيده على جبهته ، وقال : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ، ثمّ بالفاحشة ، ثمّ بالقتل ) .
فقال : يا بن رسول الله ! فما كانت خطيئته ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( ويحك إنّ داود إنّما ظن أن ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه ، فبعث الله عزّ وجل إليه الملكين فتسوّرا المحراب ، فقالا : ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) ، فعجّل داود ( عليه السلام ) على المدّعى عليه ، فقال : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ، ولم يُقبل على المدعي عليه فيقول ما يقول .
فكان هذا خطيئة حكمه ، لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع قول الله عزّ وجل يقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) .
فقلت : يا بن رسول الله فما قصّته مع اُوريا ؟
فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّ المرأة في أيّام داود إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً ، وأوّل من أباح الله عزّ وجل له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود ( عليه السلام ) ، فذلك الذي شقّ على اُوريا .
وأمّا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) وقول الله عزّ وجل : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) ، فإن الله عزّ وجل عرّف نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في الآخرة ، وإنّهنّ أُمهات المؤمنين ، وإحدى من سمّي له زينب بنت جحش ، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى ( صلى الله عليه وآله ) اسمها في نفسه ، ولم يبده له لكيلا يقول أحد من المنافقين أنّه قال في امرأة في بيت رجل أنّها أحد أزواجه من أُمهات المؤمنين .
وخشي قول المنافقين ، قال الله عزّ وجل : ( وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) في نفسك ، وأنّ الله عزّ وجل ما تولّى تزويج أحد من خلقه إلاّ تزويج حواء من آدم ، وزينب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله) ، وفاطمة من علي ( عليه السلام ) .
قال : فبكى علي بن الجهم وقال : يا بن رسول الله ، أنا تائب إلى الله عزّ وجل أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلاّ بما ذكرته .

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع سليمان المروزي

قدم سليمان المروزي ـ متكلّم خراسان ـ على المأمون العباسي ، فأكرمه ووصله ، ثمّ قال له : إنّ ابن عمّي علي بن موسى قدم عليَّ من الحجاز ، وهو يحبّ الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته .
فقال سليمان : يا أمير المؤمنين إنّي أكره أن اسأل مثله في مجلس في جماعة من بني هاشم ، فينتقص عند القوم إذا كلّمني ، ولا يجوز الاستقصاء عليه .
قال المأمون : إنّما وجهت إليك لمعرفتي بقوّتك ، وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حجّة واحدة فقط .
فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين ، أجمع بيني وبينه وخلّني وإيّاه وألزم ، فوجّه المأمون إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فقال : إنّه قدم علينا رجلٌ من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خفَّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت .
فنهض ( عليه السلام ) للوضوء ، وقال لنا : تقدّموني وعمران الصابي معنا ، فصرنا إلى الباب ، فأخذ ياسر وخالد بيديّ فأدخلاني على المأمون ، فلمّا سلّمت قال : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله ؟
قلت : خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدّم ، ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين إنّ عمران مولاك معي وهو بالباب .
فقال : من عمران ؟ قلت : الصابي الذي أسلم على يدك .
قال : فليدخل ، فدخل فرحّب به المأمون ، ثمّ قال له : يا عمران لم تمتْ حتّى صرت من بني هاشم .
قال : الحمد لله الذي شرّفني بكم يا أمير المؤمنين .
فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلّم خراسان .
قال عمران : يا أمير المؤمنين إنّه يزعم أنّه واحد خراسان في النظر وينكر البداء .
قال : فلم لا تناظره ؟
قال عمران : ذلك إليه .
فدخل الرضا ( عليه السلام ) فقال : ( في أيّ شيء كنتم ؟ ) .
قال عمران : يا بن رسول الله هذا سليمان المروزي .
فقال سليمان : أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟
قال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجّة احتجّ بها على نظرائي من أهل النظر .
قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟
قال ( عليه السلام ) : ( وما أنكرت من البداء يا سليمان ؟ والله عزّ وجل يقول : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ، ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، ويقول عزّ وجل : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ) ، ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) ) .
قال سليمان : هل رويت فيه شيئاً عن آبائك ؟
قال ( عليه السلام ) : ( نعم ، رويت عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : ( إنّ لله عزّ وجل علمين ، علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلماً علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيّه يعلمونه ) .
قال سليمان : أحبّ أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ .
قال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزّ وجل لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) أراد هلاكهم ثمّ بدا لله ، فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
قال سليمان : زدني جعلت فداك .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( لقد أخبرني أبي عن آبائه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إنّ الله عزّ وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا ، فأتاه ذلك النبي فأخبره ، فدعا الله الملك وهو على سريره حتّى سقط من السرير ، فقال : يا ربّ أجّلني يشبّ طفلي وأفضي أمري ، فأوحى الله عزّ وجل إلى ذلك النبي أن ائت فلان الملك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله ، وزدت في عمره خمس عشرة سنة .
فقال ذلك النبي : يا ربّ أنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ ، فأوحى الله عزّ وجل إليه : إنّما أنت عبد مأمور ، فأبلغه ذلك والله لا يسأل عمّا يفعل ) ، ثمّ التفت إلى سليمان فقال : ( أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب ) .
قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟
قال ( عليه السلام ) : ( قالت : ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) ، يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر فليسيحدث شيئاً .
فقال الله عزّ وجل : ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ) ، ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر ( عليه السلام ) عن البداء ، فقال : وما ينكر الناس من البداء ؟ وأن يقف الله قوماً يرجيهم لأمره ) .
قال سليمان : ألا تخبرني عن ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) في أي شيء أُنزلت ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( يا سليمان ليلة القدر ، يقدّر الله عزّ وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من حياة أو موت أو خير أو شر ، أو رزق فما قدره من تلك الليلة فهو من المحتوم ) .
قال سليمان الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني .
قال ( عليه السلام ) : ( يا سليمان إنّ من الأمور أُموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى ، يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، يا سليمان إنّ علياً ( عليه السلام ) كان يقول : العلم علمان : فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه يكون ، ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله .
وعلم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحداً من خلقه ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ) .
قال سليمان للمأمون : يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ، ولا أُكذّب به إن شاء الله .
فقال المأمون : يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف .
قال سليمان : يا سيّدي أسألك ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( سل عمّا بدا لك ) .
قال : ما تقول فيمن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حيّ وسميع وبصير وقدير ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّما قلتم حدثت الأشياء واختلف لأنّه شاء وأراد ، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنّه سميع وبصير ، فهذا دليل على أنّها ليست بمثل سميع ولا بصير ولا قدير ) .
قال سليمان : فإنّه لم يزل مريداً .
قال ( عليه السلام ) : ( يا سليمان فإرادته غيره ؟ ) .
قال : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل ) .
قال سليمان : ما أثبت ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أهي محدثة ؟ ) .
قال سليمان : لا ما هي محدثة .
فصاح المأمون وقال : يا سليمان مثله يعايا أو يكابر ؟ عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر ، ثمّ قال : كلّمه يا أبا الحسن ، فإنّه متكلّم خراسان ، فأعاد عليه المسألة .
فقال ( عليه السلام ) : ( هي محدثة ، يا سليمان فإنّ الشيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً ، وإذا لم يكن محدثاً كان أزليّاً ) .
قال سليمان : إرادته منه كما أن سمعه منه ، وبصره منه ، وعلمه منه .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فإرادته نفسه ) .
قال : لا .
قال ( عليه السلام ) : ( فليس المريد مثل السميع والبصير ) .
قال سليمان : إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون شيئاً ، أو أراد أن يكون حيّاً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً ؟! ) .
قال : نعم .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أفبإرادته كان ذلك ؟! ) ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( فليس لقولك أراد ، أن يكون حيّاً سميعاً بصيراً ، معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته ) .
قال سليمان : بلى ; قد كان ذلك بإرادته .
فضحك المأمون ومن حوله ، وضحك الرضا ( عليه السلام ) ، ثمّ قال لهم : ( ارفقوا بمتكلّم خراسان ، يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغيّر عنها وهذا ممّا لا يوصف الله عزّ وجل به ، فانقطع ) .

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمّد النوفلي : لمّا قدم علي بن موسى الرضا (عليهما السلام ) إلى المأمون ، أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات ، مثل الجاثليق ورأس الجالوت ، ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر ، وأصحاب زردهشت ، وقسطاس الرومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثمّ أعلم المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم عليّ ، ففعل .
فرحّب بهم المأمون ، ثمّ قال لهم : إنّي إنّما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ، ولا يتخلّف منكم أحد ، فقالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ، نحن مبكّرون إن شاء الله .
قال الحسن بن محمّد النوفلي : فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) إذ دخل علينا ياسر الخادم ، وكان يتولّى أمر أبي الحسن ( عليه السلام ) فقال : يا سيّدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام ، فيقول : فداك أخوك إنّه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم ، وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله ) .
قال الحسن بن محمّد النوفلي : فلمّا مضى ياسر التفت إلينا ، ثمّ قال لي : ( يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ ) ، فقلت : جعلت فداك يريد الامتحان ، ويحبّ أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس ـ والله ـ ما بنى .
فقال لي : ( وما بناؤه في هذا الباب ؟ ) ، قلت : إنّ أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء ، وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهته ، وإن احتججت عليهم بأنّ الله واحد قالوا : صحّح وحدانيّته ، وإن قلت : إنّ محمّد ( صلى الله عليه وآله ) رسول الله ، قالوا : أثبت رسالته ، ثمّ يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته ، ويغالطونه حتّى يترك قوله ، فأحذرهم جعلت فداك .
قال : فتبسّم ( عليه السلام ) ، ثمّ قال : ( يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي ؟ ) .
قلت : لا والله ما خفت عليك قطّ ، وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله .
فقال لي : ( يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون ؟ ) قلت : نعم .
قال : ( إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كلّ صنف ، ودحضت حجّته ، وترك مقالته ، ورجع إليّ قولي ، علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة منه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ) .
فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل ، فقال له : جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك ، وقد اجتمع القوم ، فما رأيك في إتيانه ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله ) ، ثمّ توضأ ( عليه السلام ) وضوء الصلاة ، وشرب شربة سويق وسقانا منه ، ثمّ خرج وخرجنا معه حتّى دخلنا على المأمون ، فإذا المجلس غاص بأهله ، ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور .
فلمّا دخل الرضا ( عليه السلام ) قام المأمون ، وقام محمّد بن جعفر ، وقام جميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفاً والرضا ( عليه السلام ) جالس مع المأمون ، حتّى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة ، ثمّ التفت إلى الجاثليق ، فقال : يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ، وابن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه .
فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أُحاجُّ رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ، ونبيّ لا أؤمن به ؟
فقال له الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به ؟! ) .
قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي .
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ( سل عمّا بدا لك وافهم الجواب ) .
قال الجاثليق : ما تقول في نبوّة عيسى ( عليه السلام ) وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئاً ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أُمته ، وأقرّ به الحواريون ، وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) وبكتابه ، ولم يبشّر به أُمّته ) .
قال الجاثليق : أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ قال : ( بلى ) .
قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد ، ممّن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( الآن جئت بالنصفة يا نصراني ، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند المسيح عيسى بن مريم ؟ ) .
قال الجاثليق : ومن هذا العدل ؟ سمه لي ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ما تقول في يوحنا الديلمي ؟ ) .
قال : بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح .
قال ( عليه السلام ) : ( فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال : إنّ المسيح أخبرني بدين محمّد العربي ، وبشّرني به إنّه يكون من بعده ، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به ؟! ) .
قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ، ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأُمّته أتؤمن به ؟ ) .
قال : شديداً ، قال الرضا ( عليه السلام ) لقسطاس الرومي : ( كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ) ؟
قال : ما احفظني له ، ثمّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له : ( ألست تقرأ الإنجيل ؟! ) ، قال : بلى لعمري .
قال ( عليه السلام ) : ( فخذ على السفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأُمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي ) .
ثمّ قرأ ( عليه السلام ) السفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقف ، ثمّ قال : ( يا نصراني إنّي أسألك بحق المسيح وأُمّه أتعلم أنّي عالم بالإنجيل ؟ ) قال : نعم ، ثمّ تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأُمته ، ثمّ قال : ( ما تقول يا نصراني ؟ هذا قول عيسى بن مريم ، فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسى ( عليهما السلام ) ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل ، لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك ) .
قال الجاثليق : لا أُنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( اشهدوا على إقراره ) ، ثمّ قال : ( يا جاثليق ، سل عمّا بدا لك ) .
قال الجاثليق : اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( على الخبير سقطت ، أمّا الحواريون فكانوا أثنى عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا .
وأمّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنّا الأكبر بأج ، ويوحنّا بقرقيسيا ، ويوحنّا الديلمي بزجان ، وعنده كان ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر أهل بيته وأُمّته ، وهو الذي بشّر أُمّة عيسى وبني إسرائيل به ) .
ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته ) .
قال الجاثليق : أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك ، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام ، قال الرضا ( عليه السلام ) : ( وكيف ذلك ؟ ) .
قال الجاثليق : من قولك : إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة ، وما أفطر عيسى يوماً قطّ ، ولا نام بليل قطّ ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فلمن كان يصوم ويصلّي ؟ ) ، قال : فخرس الجاثليق وانقطع .
ثمّ أنّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) بدأ يسأل النصراني مسائل ، ولم يكن للنصراني جواباً ، فيجيبه الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، إلى أن قال الجاثليق : أمّا هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل ، وسمعت أشياء ممّا علمته ، شهد قلبي أنّها حقّ ، فاستزدت كثيراً من الفهم .
وهكذا أخذ الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسأل من رأس الجالوت والهربذ الأكبر وغيرهما ، ولم يكن عندهم جواباً مقنعاً

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أرباب المذاهب الإسلامية

لمّا حضر الإمام علي الرضا ( عليه السلام ) مجلس المأمون ، وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان .
فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ؟
فقالت العلماء : أراد الله الأُمّة كلّها .
فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لا أقول كما قالوا ، ولكن أقول : أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ) .
فقال المأمون : وكيف عنى العترةَ دون الأُمّة ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لو أراد الأُمّة لكانت بأجمعها في الجنّة ; لقول الله : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، ثمّ جعلهم في الجنّة ، فقال عزَّ وجلَّ : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم ) .
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : ( هم الذين وصفهم الله في كتابه ، فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، وهم الذين قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنّي مخلّفٌ فيكم الثَقَلين كتابَ الله وعترتي ـ أهلَ بيتي ـ لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، انظروا كيف تَخلُفوني فيهما ، يا أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ) .
قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة هم الآل أو غيرُ الآل ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( هم الآل ) .
فقالت العلماء : فهذا رسول الله يؤثَر عنه أنّه قال : ( أُمّتي آلي ) ، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه : آل محمّد أُمّته .
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمّد ؟ ) ، قالوا : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فتحرم على الأُمّة ؟ ) قالوا : لا .
قال ( عليه السلام ) : ( هذا فرقٌ بين الآل وبين الأُمة ، ويحكم ! أين يذهب بكم ؟! أصرفتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قومٌ مسرفون ؟! أمّا علمتم إنّما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم ؟! ) .
قالوا : من أين قلت يا أبا الحسن ؟
قال ( عليه السلام ) : ( من قول الله : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ، فصارت وراثة النبوَّة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين ، أمّا علمتم أنَّ نوحاً سأل ربّه ، ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ، وذلك أنَّ الله وعده أن ينجيه وأهلَه ، فقال له ربُّه تبارك وتعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) .
فقال المأمون : فهل فضَّل الله العترة على سائر الناس ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله العزيز الجبّار فضّل العترة على سائر الناس في محكم كتابه ) .
قال المأمون : أين ذلك من كتاب الله ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) ، وقال الله في موضع آخر : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) .
ثمّ ردَّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحُسِدوا عليهما بقوله : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ، يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، والمُلْكُ هاهنا الطاعة لهم ) .
قالت العلماء : هل فسَّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( فسَّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً ، فأوّل ذلك قول الله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) ـ ورهطك المخلصين ـ هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب ، وهي ثابتةٌ في مصحف عبد الله بن مسعود ، فلمّا أمر عثمان زيدَ ابن ثابت أن يجمع القرآن خَنَسَ هذه الآية ، وهذه منزلةٌ رفيعة وفضلٌ عظيم ، وشرف عال حين عنى الله عزَّ وجلَّ بذلك الآل ، فهذه واحدة .
والآية الثانية في الاصطفاء قول الله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنَّه فضلٌ بيِّن .
والآية الثالثة حين ميَّز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيَّه في آية الابتهال ، فقال : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، فأبرز النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً والحسنَ والحسينَ وفاطمةَ ( عليهم السلام ) فقَرَن أنفسهم بنفسه .
فهل تدرون ما معنى قوله : ( وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ؟ .
قالت العلماء : عنى به نفسَه .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( غلطتم ، إنّما عنى به عليّاً ( عليه السلام ) ، وممّا يدلُّ على ذلك قولُ النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين قال : ( لينتهينَّ بنو وليعةَ ، أو لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي ، يعني عليّاً ( عليه السلام ) .
فهذه خصوصيَّة لا يتقدَّمها أحدٌ ، وفضل لا يختلف فيه بشر ، وشرف لا يسبقه إليه خلقٌ ; إذ جعل نفسَ عليٍّ ( عليه السلام ) كنفسه فهذه الثالثة .
وأمّا الرابعة : فإخراجه الناسَ من مسجده ما خلا العترةَ حين تكلّم الناسُ في ذلك ، وتكلم العباسُ ، فقال : يا رسول الله تركت عليّاً وأخرجتنا ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكنَّ الله تركه وأخرجكم ، وفي هذا بيان قوله لعلي ( عليه السلام ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ) .
قالت العلماء : فأين هذا من القرآن ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أوجِدُكُم في ذلك قرآناً أقرؤه عليكم ) ، قالوا : هات .
قال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) ، ففي هذه الآية منزلةُ هارون من موسى ، وفيها أيضاً منزلةُ علي ( عليه السلام ) من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ومع هذا دليل ظاهر في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين قال : إنّ هذا المسجد لا يحلُّ لجُنُب ولا لحائض إلاّ لمحمّد وآل محمّد ) .
فقالت العلماء : هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلاّ عندكم معشرَ أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد مدينةَ العلم فليأتها من بابها ، ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا يُنكره إلاّ معاندٌ ، ولله عزَّ وجلَّ الحمدُ على ذلك ، فهذه الرابعة .
وأمّا الخامسة : فقولُ الله عزَّ وجلَّ : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) خصوصية خصَّهم الله العزيز الجبّار بها ، واصطفاهم على الأُمّة ، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ادعوا لي فاطمة فدعوها له .
فقال : يا فاطمة ، قالت : لبيّك يا رسول الله ، فقال : إنَّ فدك لم يُوجَف عليها بخيل ولا ركاب ، وهي لي خاصَّة دون المسلمين ، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به فخُذيها لك ولولدك ، فهذه الخامسة .
وأمّا السادسة : فقول الله عزَّ وجلَّ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فهذه خصوصية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دون الأنبياء ، وخصوصيَّة للآل دون غيرهم ، وذلك أنَّ الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح ( عليه السلام ) : ( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) .
وحكى عن هود ( عليه السلام ) قال : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) .
وقال لنبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، ولم يفرض الله مودَّتهم إلاّ وقد علم أنَّهم لا يرتدّون عن الدين أبداً ، ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً .
وأُخرى أن يكون الرجل وادّاً للرجل فيكون بعضُ أهل بيته عدوَّاً له فلا يَسلَمُ قلبٌ ، فأحبَّ الله أن لا يكون في قلبِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على المؤمنين شيءٌ ، إذ فرض عليهم مودَّة ذي القربى ، فمن أخذ بها وأحبَّ رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) وأحبَّ أهل بيته ( عليهم السلام ) لم يستطع رسولُ الله أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذها وأبغض أهل بيت نبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) فعلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يبغضه ; لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله ، وأيُّ فضيلة وأيُّ شرف يتقدّم هذا .
ولمّا أنزل الله هذه الآية على نبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أصحابه ، فَحَمِد الله وأثنى عليه ، وقال : أيُّها الناس إنَّ الله قد فرض عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدُّوه ؟ فلم يجبه أحدٌ .
فقام فيهم يوماً ثانياً ، فقال مثل ذلك ، فلميجبه أحدٌ ، فقام فيهم يومَ الثالث ، فقال : أيُّها الناس إنَّ الله قد فرض عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدُّوه ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : أيُّها الناس إنَّه ليس ذهباً ولا فضة ، ولا مأكولاً ولا مشروباً ، قالوا : فهات إذاً ؟ فتلا عليهم هذه الآية ، فقالوا : أمَّا هذا فنعم ، فما وفى به أكثرُهم ) .
ثمَّ قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن آبائه ، عن الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، قال : اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالوا : إنّ لك يا رسول الله مؤونةً في نفقتك ، وفيمن يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا مع دمائنا ، فاحكم بها بارَّاً مأجوراً ، أعطِ ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج .
فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه الروح الأمين ، فقال : يا محمّد ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، لا تؤذوا قرابتي من بعدي ، فخرجوا ، فقال أُناسٌ منهم : ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحُثَّنا على قرابته من بعده إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه ، وكان ذلك من قولهم عظيماً .
فأنزل الله هذه الآية : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، فبعث إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هل من حدث ؟ فقالوا : إي والله يا رسول الله ، لقد تكلّم بعضنا كلاماً عظيماً فكرهناه ، فتلا عليهم رسول الله فبكوا واشتدَّ بكاؤهم ، فأنزل الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) فهذه السادسة .
وأمّا السابعة ، فيقول الله : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، وقد علم المعاندون منهم أنَّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : تقولون : اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنَّك حميدٌ مجيد ، وهل بينكم معاشر الناس في هذا اختلافٌ ؟ ) .
قالوا : لا .
فقال المأمون : هذا ما لا اختلاف فيه أصلاً ، وعليه الإجماع ، فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا القرآن ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أخبروني عن قول الله : ( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فمن عنى بقوله : يس ؟ ) .
قالت العلماء : يس محمّد ليس فيه شك .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أعطى الله محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لم يبلغ أحدٌ كنه وصفه لمن عقله ، وذلك أنَّ الله لم يسلّم على أحد إلاّ على الأنبياء ( صلوات الله عليهم ) ، فقال تبارك وتعالى : ( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) ، وقال : ( سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، وقال : ( سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) ولم يقل : سلامٌ على آل نوح ، ولم يقل : سلامٌ على آل إبراهيم ، ولا قال : سلامٌ على آل موسى وهارون ; وقال عزَّ وجلَّ : ( سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) يعني آل محمّد ) ، فهذه السابعة .
وأمَّا الثامنة ، فقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) فقرن سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسوله ( صلى الله عليه وآله) ، فهذا فصل بين الآل والأُمّة ، لأنَّ الله جعلهم في حيِّز وجعل الناس كلَّهم في حيِّز دون ذلك ، ورضي لهم ما رضي لنفسه واصطفاهم فيه ، وابتدأ بنفسه ثمّ ثنّى برسوله ، ثمّ بذي القربى في كلّ ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك ممّا رضيه عزّ وجل لنفسه ورضيه لهم .
فقال ـ وقوله الحقُّ ـ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ، فهذا توكيد مؤكّد ، وأمرٌ دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .
وأمّا قوله : ( وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) ، فإنَّ اليتيم إذا انقطع يتمُهُ خرج من المغانم ، ولم يكن له نصيبٌ ، وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيبٌ في المغنم ، ولا يحلُّ له أخذه ، وسهم ذي القربى إلى يوم القيامة ، قائم فيهم للغنيِّ والفقير ، لأنَّه لا أحد أغنى من الله ولا من رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل لنفسه منها سهماً ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) سهماً ، فما رضي لنفسه ولرسوله رضيه لهم .
وكذلك الفيء ما رضيه لنفسه ولنبيَّه ( صلى الله عليه وآله ) رضيه لذي القربى ، كما جاز لهم في الغنيمة فبدأ بنفسه ، ثمَّ برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمَّ بهم ، وقرن سهم بسهم الله وسهم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وكذلك في الطاعة ، قال عزَّ وجلَّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) فبدأ بنفسه ، ثمَّ برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ بأهل بيته .
وكذلك آية الولاية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ ) ، فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول مقرونةً بطاعته ، كما جعل سهمه مع سهم الرسول مقروناً بأسهمهم في الغنيمة والفيء ، فتبارك الله ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت .
فلمّا جاءت قصةُ الصدقة نزَّه نفسه عزَّ ذكره ، ونزَّه رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزَّه أهل بيته عنها ، فقال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ ) ، فهل تجد في شيء من ذلك أنَّه جعل لنفسه سهماً أو لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) أو لذي القربى ، لأنّه لمّا نزَّههم عن الصدقة نزَّه نفسه ونزَّه رسولَه ونزَّه أهل بيته لا بل حرَّم عليهم ، لأنَّ الصدقة محرّمةٌ على محمّد وأهل بيته ، وهي أوساخ الناس لا تحِلُّ لهم ، لأنّهم طُهِّروا من كل دنس ورسخ ، فلمّا طهَّرهم واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه ، وكره لهم ما كره لنفسه .
وأمّا التاسعة ، فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) .
فقالت العلماء : إنّما عنى بذلك اليهود والنصارى .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( وهل يجوز ذلك ؟ إذاً يدعونا إلى دينهم ويقولون : إنّه أفضل من دين الإسلام ) .
فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا يا أبا الحسن ؟
قال : ( نعم ، الذِكرُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب الله بقوله في سورة الطلاق : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) ، فالذِّكر رسول الله ونحن أهله ، فهذه التاسعة .
وأمّا العاشرة ، فقول الله عزَّ وجلَّ في آية التحريم : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) ، أخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابنتي ، أو ما تناسل من صلبي لرسول الله أن يتزوّجها لو كان حيّاً ؟ ) .
قالوا : لا .
قال ( عليه السلام ) : ( فأخبروني هل كانت ابنةُ أحدكم تصلَحُ له أن يتزوّجها ؟ ) .
قالوا : بلى .
فقال ( عليه السلام ) : ( ففي هذا بيان أنّا من آله ، ولستم من آله ، ولو كنتم من آله لحرّمت عليه بناتكم كما حرّمت عليه بناتي ، لاِنّا من آله وأنتم من أُمّته ، فهذا فرق بين الآل والأمّة ، إذا لم تكن الآل فليست منه ، فهذه العاشرة .
وأمّا الحادية عشرة ، فقوله في سورة المؤمن حكايةً عن قول رجل : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ، فكان ابنَ خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ولم يضفه إليه بدينه .
وكذلك خُصِّصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بولادتنا منه ، وعُمِّمنا الناسَ بدينه ، فهذا فرق ما بين الآل والأمّة ، فهذه الحادية عشرة .
وأمّا الثانية عشرة ، فقوله : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) ، فخصّنا بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع أمره ، ثمّ خصَّنا دون الأُمّة ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجيء إلى باب عليٍّ وفاطمة ( عليهما السلام ) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرّات ، فيقول : ( الصلاةَ يرحمكم الله ) ، وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا الله بها ، وخصّنا من جميع أهل بيته ، فهذا فرق ما بين الآل والأُمَّة .
وصلّى الله على ذرّيته ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد نبيه ) .

مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أبي قُرة

تصدّى الإمام الرضا ( عليه السلام ) لإبطال الشُبَه التي أثيرت حول العقيدة الإسلامية .
وقد قصد أبو قُرة خراسان لامتحان الإمام ( عليه السلام ) ، وطلب من صفوان بن يحيى ، وهو من خواص الإمام ( عليه السلام ) أن يستأذن منه للدخول عليه ، فأذن الإمام ( عليه السلام ) له .
فلمَّا تشرَّف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، فأجابه ( عليه السلام ) عنها .
ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد ، وهذه منها :
قال أبو قُرَّة : أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( اللهُ أعلم بأيٍّ كَلَّمَهُ ، بالسِّريانيَّة أم بِالعِبرَانِيَّة ) .
فأخرج أبو قُرَّة لسانه وقال : إنما أسألك عن هذا اللسان – ومعنى ذلك أنه هل كلَّمه بلسان كَلِسَان الإنسان – ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( سبحان الله عما تقول ، ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلِّمون ، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ، ولا كمثله قائل ولا فاعل ) .
فقال أبو قُرَّة : كيف ذلك ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( كَلام الخالقِ لمخلوقٍ ليس كَكَلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بِشَقِّ فَمٍ ولسان ولكن يقول : ( كُنْ ) ، فكان بمشيئتِه ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نَفَس ) .
فقال أبو قُرَّة : ما تقول في الكُتُب ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( التَّوراةُ ، والإنجِيل ، والزَّبُور ، والفُرقَان ، وكل كتابٍ أُنزِل كان كلام الله ، أنزله للعالمين نوراً وهُدىً ، وهي كلّها مُحدَثة ، وهي غير الله حيث يقول عزَّ وجلَّ : ( أوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) [ طه : 113 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : ( مَا يَأْتِيهِمْ مِّنْ ذِكْرٍ مِّنْ رِّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ استَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) [ الأنبياء : 2 ] .
والله أحدَثَ الكتب كلها التي أنزَلَها ) .
فقال أبو قُرَّة : هل تُفنَى – أي : الكتب – ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( أجمعَ المسلمون على أنَّ ما سوى الله فانٍ ، وما سوى الله فعل الله ، والتوراة والإنجيل والزَّبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : رب القرآن ، وأن القرآن يقول يوم القيامة : يا ربِّ هذا فلان – وهي أعرف به منه – قد أظمأتُ نهارَه وأسهرتُ ليله ، فَشَفِّعنِي فيه .
وكذلك التوراة والإنجيل والزَّبور وهي كلها مُحدَثة ، مَربُوبة ، أحدثها من ليس كمثله شيء هُدىً لقومٍ يعقلون ، فمن زعم أنَّهُنَّ لم يَزلْنَ معه فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ، ولا واحد ، وإن الكلام لم يزل معه ، وليس له بدو ، وليس بإِلَه ) .
فقال أبو قُرَّة : إنا روينا : إن الكتب كلّها تجيء يوم القيامة والناس في صعيد واحد ، قيام لِربِّ العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لأنها منه وهي جزء منه ، فإليه تصير .
فقال ( عليه السلام ) : ( هكذا قالت النصارى في المسيح إنه روحه ، جُزء منه ، ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه .
تعالى ربُّنا أن يكون متجزياً أو مختلفاً ، وإنما يختلف ويأتلَّف المُتجزي لإن كل متجزي متوَّهم ، والكثرة والقلة مخلوقة دالَّة على خالق خلقها ) .
فقال أبو قُرَّة : إنا روينا : إن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى الكلام ولمحمد الرؤية ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( فمن المُبلغ عن الله الثقلين : الجن والأنس ؟ ، إنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء ، أليس محمد ) ؟
فقال أبو قُرَّة : بلى .
وأوضح الإمام ( عليه السلام ) له الأمر ، وكشف ما التبس عليه قائلاً :
( كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء .
ثم يقول : أنا رأيتُه بعيني ، واحطتُ به علماً ، وهو على صورة البشر .
أما تستحيون ؟!! ما قَدِرَت الزنادقة أن ترميهِ بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ) .
فقال أبو قُرَّة : إنه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) [ النجم : 13 ] ، وما بعدها .
فقال ( عليه السلام ) : ( إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيثُ قال :
( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأى ) [ النجم : 11 ] .
يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عينَاه ، فقال :
( لَقَدْ رَأى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) [ النجم : 18 ] ، فآياتُ الله غير الله .
وقال : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) [ طه : 11 ] .
فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة ) .
فقال أبو قُرَّة : فنكذِّب بالرواية ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إذا كانت الرواية مُخالفة للقرآن كَذَّبتُها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه - أي الله تعالى - لا يُحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء ) .
فقال أبو قُرَّة : ما معنى قوله تعالى :
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى .. ) [ الإسراء : 1 ] .
فقال ( عليه السلام ) : ( لقد أخبر الله تعالى أنه أسرَى به ، ثم أخبر أنَّه لِمَ أُسْرِيَ به ، فقال : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ) [ الإسراء : 1 ] .
فآيات الله غير الله ، فقد أعذر ، وبَيَّن لِمَ فعل به ذلك ، وما رآه ، وقال :
( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) [ الجاثية : 6 ] ) .
فقال أبو قُرَّة : أين الله ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( الـ ( أيْنَ ) مَكان ، وهذه مسألة شاهدٍ عن غائب ، فالله تعالى ليس بغائب ، ولا يُقدِمُه قادم ، وهو بِكُل مكان ، موجود ، مدبِّر ، صانع ، حافظ ، ممسك السماوات والأرض ) .
فقال أبو قُرَّة : أليس هو فوق السماء دون ما سواها ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( هو الله في السماوات وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إِلَه ، وفي الأرض إله ، وهو الذي يصوِّرُكم في الأرحام كيف يشاء ، وهو معكم أينما كنتُم ، وهو الذي استوى إلى السَّماء وهي دُخَان .
وهو الذي استوى إلى السماءِ فَسوَّاهُنَّ سبع سماوات ، وهو الذي استوى على العرش ، قَد كان وَلا خَلْق ، وهو كما كان إذ لا خَلْق ، لم ينتَقِل مع المُنتَقِلين ) .
فقال أبو قُرَّة : فَما بَالُكم إذا دعوتُم رفعتم أيديكم إلى السماء ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إن الله استعبدَ خلقه بِضُروب من العبادة ، ولله مَفازِعَ يفزعون إليه ومستعبد ، فاستعبَدَ عبادَه بالقول والعلم ، والعمل والتوجّه ، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكَعبة ، ووجه إليها الحَجَّ والعمرة .
واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب ، والتضرّع ببسط الأيدي ، ورفعها إلى السَّماء حال الاستكانة ، وعلامَة العبودية والتذلل له ) .
فقال أبو قُرَّة : من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إن كُنتَ تقول بالشِّبر والذراع ، فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله ، لا يشتغل ببعضها عن بعض ، يدبِّر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله ، ويدبر أوَّله من حيث يدبِّر آخره من غير عناء ، ولا كُلفة ولا مُؤْنة ، ولا مشاورة ، ولا نصب .
وإِن كنتَ تقول : من أقرب إليه في الوسيلة ، فأطوَعهم لهُ ، وأنتم ترون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد .
وروَيتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق ، وأحدهم من أسفل الخلق ، وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق ، فسأل بعضهم بعضاً فكلهم قال : مِن عندِ الله ، أرسلني بكذا وكذا .
ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل ) .
فقال أبو قُرَّة : أتقرّ أنَّ الله مَحْمُول ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( كُل محمولٍ مفعول ، ومضاف إلى غيره ، محتاج ، فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح .
وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى :
( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [ الأعراف : 180 ] .
ولم يقل في شيء من كُتُبه أنه محمول ، بل هو الحامل في البَرِّ والبحر ، والمُمسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحداً آمن بالله وعظَّمَه قط قال في دعائه : يا محمول .. ) .
فقال أبو قُرَّة : أفنكذِّب بالرواية : إن الله إذا غضب يعرفُ غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يَجدُونَ ثقله في كواهلهم ، فَيَخرّونَ سُجَّداً ، فإذا ذهب الغَضَب ، خَفَّ فرجعوا إلى مواقفهم ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : ( أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لَعَن إبليس إلى يومك هذا ، وإلى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس وأوليائه ، أو عَنهم رَاضٍ ) ؟
فأيَّد أبو قُرَّة كلام الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : نَعَم ، هو غضبان عليه .
وانبرى ( عليه السلام ) قائلاً : ( وَيْحَك ، كَيف تَجتَرِئ أنْ تَصِفَ رَبَّك بالتغيّر من حال إلى حال ، وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟
سُبحانه ، لم يزل مع الزَّائلين ، ولم يتغيَّر مع المُتغيِّرين ) .
واستولى الذهول على أبي قُرَّة ، وحارَ في الجواب ، وانهزم من المجلس وهو غضبان ، وقَد أُترِعَت نفسُه بالغيظ والحقد على الإمام ( عليه السلام ) .